في هذا العرض نلتقي بالنموذجين في مشهد حواريّ واحد .
فهناك الثريّ المترف صاحب المال والأراضي الزراعية الشاسعة والأولادوالجاه والأبّهة . وهناك الفقير المعدم الذي لا يمتلك من ذلك شيئاً ،لكنّه يملك ما هو أثمن وأغنى وأدوم ، وهو إيمانه بالله وفضله وعظمته .
يقول تعالى في تصوير الشخصيتين : (واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهماجنّتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً * كلتا الجنّتين آتتأكلها ولم تظلم منه شيئاً وفجّرنا خلالهما نهراً * وكان له ثمر فقاللصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالاً وأعزُّ نفراً * ودخل جنّته وهو ظالملنفسه قال ما أظنُّ أن تبيد هذه أبداً * وما أظنُّ الساعة قائمة ولئنرُددت إلى ربِّي لأجدنّ خيراً منها منقلباً * قال له صاحبه وهو يحاورهأكفرت بالذي خلقك من تراب ثمّ من نطفة ثمّ سوّاك رجلاً * لكنّا هو اللهربِّي ولا أشرك بربِّي أحداً * ولولا إذ دخلت جنّتك قلت ما شاء الله لاقوّة إلاّ بالله إن ترن أنا أقلّ منك مالاً وولداً * فعسى ربِّي أن يؤتينخيراً من جنّتك ويرسل عليها حسباناً من السّماء فتصبح صعيداً زلقاً )( ) .
مقارنة بين الشخصيتين :
المشهد الحواري السابق بين صاحب الثروة المادية العريضة وبين صاحب الإيمانالعميق بالله يكشف عن هويّة كلّ منهما وإن كنّا نجهل أسماءهما ، لأنّالقرآن لم يذكر ذلك ، وهو ليس بالمهم ، فالمهم فحوى القصة ومضمون الحواروقيمة النموذج .
1 ـ صاحب الجنّتين يرى أنّ ملكه نعيم خالد لا يزول . والمؤمن المعدم يرىأنّ هذا الملك ـ مهما كان عريضاً ـ فهو عرضة للزوال في أيّة لحظة(( )) .
2 ـ صاحب الجنّتين يرى أنّ قيمته في كثرة ما لديه من ثروات وبنين . والمؤمن المعدم يرى أن قيمته فيما يؤمن به .
3 ـ صاحب الجنّتين يرى أنّ الله سيتفضّل عليه بالآخرة أيضاً كما تفضّلعليه في الدنيا كجزء من غروره وخيلائه وتصوّره أنّ الله يحبّه لذاتهويكرمه لأجل سواد عينيه . والمؤمن المعدم يرى أنّ عطاء الله للمؤمنين وماادخره لهم من جنّات النعيم ومُلك لا يبلى ، سيكون أوسع وأفضل وأدوم منعطائه للأثرياء في الحياة الدنيا .
4 ـ صاحب الجنّتين لا يؤمن أنّ هناك قوّة أقوى من قوّته يمكن أن تدمّر مايملك حتى ولو كان الفيضان ، فيما يرى الفقير المؤمن أنّ دوام الحال منالمحال ، وأنّ جنّات الأرض مهما كانت غنّاء عامرة يمكن أن تصبح خاوية علىعروشها في فيضان أو حريق يأتي عليها فيجعلها قاعاً صفصفا ، لأ نّها لاتملك صفة الدوام ، فهي كصاحبها فانية (كلّ مَنْ عليها فان * ويبقى وجهربّك ذو الجلال والإكرام )( ) .
التطبيقات العملية :
إنّ لصاحب الجنّتين في الحياة أشباهاً ونظائر ، فقد تلتقي بأناس أثرياءيخلدون إلى ثرواتهم ويركنون إليها كمن يستند إلى ركن وثيق . فلا يعرفونفضل الله عليهم ولا يذكرونه ولا يشكرونه وكأنّ ما لديهم من صنع يديهموقولهم كما قال (قارون) صاحب الثراء الفاحش (إنّما أُوتيته على علم عندي)( ) .
وقد تلتقي بأثرياء في أرصدتهم وعقاراتهم وممتلكاتهم ولكنّهم فقراء فينفوسهم ، بخلاء في عطائهم ، ضعفاء في إيمانهم وإلتزامهم ، وهم يتصورون أنّهم في بروج مشيّدة لا يدركهم الموت .
وتلتقي بفئة ثالثة تنظر إلى مَنْ هو أدنى مستوى منها نظرة ازدراء واستصغارحتى ولو كان أكبر منهم في مقامه الإيماني والعمليّ والجهاديّ والعلميّ ،لأ نّهم يعتبرون ما يملكونه أعظم من الإيمان والعلم والعمل والجهاد .
وفي مقابل هذه النماذج الحياتية ، ترى :
أناساً فقراء لا يملكون من طعام الدنيا شيئاً لكنهم أغنياء من التعفّف ،وكلّهم ثقة وأمل وإيمان أن عطاء الدنيا ـ مهما كان كبيراً ـ فهو لا يساويشيئاً في موازاة عطاء الآخرة ، فللآخرة يعملون ، ولا ينسون نصيبهم منالدنيا .
وهاتان الصورتان (صورة الثري صاحب الجنّتين) و (صورة المؤمن الفقيرالمعدم) لهما انعكاسات في التعامل الاجتماعي ، فبعض الناس يحترمون صاحبالثروة ويقدّرونه أكثر من تقديرهم للمؤمن العامل ، فتراهم يفسحون له فيمجالسهم ، ويقومون له اكباراً واجلالاً وإذا خطب ابنة أحدهم هرعوالتزويجها من ابنه ، وإذا طلب منهم خدمة تهافتوا أو سارعوا لقضائها ، ولايفعلون ذلك مع المؤمنين المعدمين إلاّ نادراً ، الأمر الذي يعني أنّالنموذجين المذكورين في الآيات الكريمة ما زالا يعيشان في مجتمعاتنا ،وإنّ صورة صاحب الجنّتين هي التي تخطف الأبصار رغم أنّ المال لا يشكّلقيمة داخلية تعبّر عن إنسانية الانسان وعلمه وخلقه وسجاياه.،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،
جعلنا لله من أصحاب الإيمان ،،،