إذا الشعب يوما أراد الحياة .. فلا بد أن يستجيب القدر .. ولا بد لليل أن ينجلي .. ولا بد للقيد أن ينكسر..
هذه الأبيات الشعرية, التي قالها أبو القاسم الشابي من تونس,
تعتبر من أعظم ما قاله العرب, لما فيها من معاني عميقة تجسد إرادة الشعب الحقيقية والروح الثائرة والنفوس المتمردة التي لا تقهر, أمام أعنت الآت القمع والبطش التي تستخدمها جبابرة التأريخ لإذلال الشعوب وقهرهم. صارت هذه الأبيات فيما بعد أناشيد وأغاني يتغني بها الشعب العربي من سبتة إلى الأحواز, لتغذيهم الإيمان بالنصر الحتمي وترفع من معنوياتهم في معارك التحرير من الإحتلال والطغاة.
إنتصار ثورة تونس التي أبهرت العالم أجمع, لعدة إعتبارات, كانت ترجمة وتطبيق حقيقي لأبيات أبو القاسم الشابي تلك، حيث أراد الشعب التونسي الحياة, فإستجاب له القدر وأنجلى عنه الليل و أنكسرت القيود أمام رغبته و إرادته في التغيير. وأصبح الشعب التونسي بثورته المنصورة, رافعا شعلة الأمل بالنصر والتغيير ليس في لوطن العربي فحسب بل للعالم الثالث برمته. أقذف الشعب التونسي بثورته المنصورة, في هذه الأيام, كرة توازن الرعب واليأس من ملعب وساحة الشعب العربي, إلى ملعب الحكام والأنظمة الديكتاتورية التي أصبحت مهزلة ومخجلة, لما جلبت للوطن العربي العار والهزائم والهوان. تحرك العالم العربي بعد إنتصار ثورة تونس, وخرج بمظاهرات إحتفالية وأخرى لتطبيق النموذج التونسي الناجح, في الأوطان العربية التي تحكم بعضها رؤساء منذ عشرين وثلاثين وأربعين سنة.
جعل الشعب التونسي, جميع العالم بهذه الأيام التي نعيشها أن يراقب بكل حذر لما ستؤدي إشعاعات واصداء ثورة الجياع في تونس, بالأقطار العربية الأخرى. وتعتبر الأيام المقبلة حبلى بكثير من المفاجئات والتداعيات والتحديات للانظمة العربية, حيث ما حصل في تونس هو أكثر من جرس إنذار, بل هو درسا مهما لحكام الدول العربية وتجربة غنية للشعوب المقهورة. إستطاع الشعب التونسي بثورته الشعبية, أن يخطف الأنظار ويربك التوقعات والتحاليل السياسية والإستراتيجية في إحتمال وقوع ثورة الجياع والبطالة في تونس المستقرة نسبيا, مقارنة بشقيقاتها في الوطن العربي المضطربة سياسيا والتي تعاني من أزمات إجتماعية وإقتصادية ومن أم الأزمات, أزمة الشرعية, لكن جاء "محمد بو عزيزي" الشاب الجامعي, ليغير المعادلة التقليدية في حسابات المحللين وحتى الفلكيين, حيث لم يشعل النار "بو عزيزي" بنفسه فقط, بل أشعلها بنفوس التونسيين وقاد الثورة وهو في المسشتفى وحتى بعد وفاته, إلى النصر العظيم وتمكن من الإطاحة بالرئيس التونسي. ولم تشفع للرئيس زيارته لـ" محمد بو عزيزي" وهو في المستشفى قبل أن يتوفى الأخير بأيام قليلة, لإحتواء الأزمة والحيلولة دون تطورها قبل أن تحرق نار "بو عزيزي" النظام التونسي برمته وعلى رأسه زين العابدين.
دخل تونس منذ بداية العقد الثاني من القرن الواحد و العشرين, بعهد جديد, تتمناها كل الشعوب العربية في الوطن العربي. لم يكن أحد يتوقع ثورة في تونس وإنتصارها بهذه السرعة المبهرة, التي سميت بثورة "الياسمين" أو الثورة "الوردية" نظرا لسقوط ضحايا قليلة بالأرواح, (78 قتيلا و 94 جريحا حسب تصريح وزير الداخلية التونسي في الحكومة المؤقتة) مقارنة بحجم المكاسب والتغيير الكبير, الذي دفع الشعب العربي الآلاف من القرابين في الأقطار العربية الأخرى في سبيل تحقيق نصف ما حققه الشعب التونسي في هذه الثورة التي أثبتت للعالم العربي مدى هشاشة الأنظمة العربية, مقابل غضب و صرخة الجماهير الجائعة, التي يمكن أن تغيير اليأس والجوع والخوف, إلى أمل ونصر أذا ما تحركت ورفضت الخنوع والأمر الواقع وآمنت بقدراتها وإرادتها الجماعية, فحينها تتكسر القيود , وتشرق شمس الحرية ويطل فجر الإنتصارات التي طالما إنتظرناه طويلا.
تدل المؤشرات في الدول العربية التي تغلي على نار "بو عزيزي" على إنها إما تتراجع كثيرا أمام الشعب و تقوم بكثير من الإصلاحات السياسية والإقتصادية وإما ستحرقهم لهيب نار "بو عزيزي" التي أمتدت الى الكثير من الدول العربية. المظاهرات التي أنطلقت في عدد من الدول العربية وإحراق عدد من الشبان العرب أنفسهم في مصر والجزائر وموريتانيا ما هي إلا شرارت نارية حارقة ستنتشر كالنار بالهشيم في الأنظمة الديكتاتورية في الوطن العربي.