بسم الله والصلاة والسلام على أشرف خلق الله سيدنا وحبيبنا محمد بن عبد الله ومن اهتدى بهداه. أما بعد..
يعتقد الكثير أن مفهوم الثقافة يقتصر فقط على الأفكار الإيجابية البناءة وهذا فهم خاطئ للثقافة، حيث أن الثقافة قد تحتوي على أفكار إيجابية أو سلبية بحسب الوسط الذي تنتشر فيه، فهنالك تعاريف عديدة للثقافة، ومفهوم الثقافة في التعريف المتفق عليه في إعلان مكسيكو (6 آب 1982م)، والذي ينص على أن "الثقافة بمعناها الواسع يمكن النظر إليها على أنها جميع السمات الروحية والمادية والعاطفية التي تميز ( مجتمعاً بعينه )، أو ( فئة اجتماعية بعينها )، وهي تشمل، الفنون والآداب وطرائق الحياة، كما تشمل الحقوق الأساسية للإنسان ونظم القيم والمعتقدات والتقاليد".
ومن خلال هذا التعريف يتضح لنا أن الثقافة تعتبر لسان حال مجتمع بعينه، تعبر عن الأفكار المنتشرة والمتداولة بين أفراد هذا المجتمع، وتختلف من مجتمع لآخر، فهناك ثقافة إيجابية وهي ثقافة الإبداع والتي هي حال المجتمعات المتقدمة، وبالمقابل هنالك ثقافة سلبية وهي ثقافة الاستهزاء والتي تنتشر في المجتمعات المتأخرة والبدائية، فإن أردنا قياس مدى تقدم أي مجتمع، فما علينا سوى معرفة أي الثقافتين يطغى على الآخر، «فكل إناء بما فيه ينضح».
فحينما يقابل أي عمل جاد إيجابي أو إبداعي باستهزاء وسخرية فهنا تكمن المشكلة، حيث أن الاستهزاء أكبر أعداء الإبداع، فالإبداع يبدأ بفكرة إيجابية جديدة تحتاج إلى التشجيع والاهتمام حتى تتبلور وتصبح علماً مفيداً ينتفع به ويرتقي بالبشرية، فإذا قوبلت هذه الفكرة بالاستهزاء فإنها توأد في مهدها، فلو أخذنا تجربة - على سبيل المثال لا الحصر - العالِم الكبير " نيوتن ", الذي غمر العالم بعلومه القيمة، فهذا العالِم في بدايته كان يستهزأ به وفُصل من مدرسته على أنه لا يصلح للدراسة، وبينما هو مختلي بنفسه، احترم عقله وراح يلاحظ الطبيعة فاخترع لنا قانون الجاذبية الذي قفز بالحضارة الإنسانية إلى أبعد الحدود.
ولو نظرنا إلى الطريقة التي اكتشف بها هذا العالِم علمه، لوجدناها في منتهى الغرابة بالنسبة للكثيرين، ولكن هذا هو قانون الإبداع والابتكار، فبينما كان نيوتن جالس تحت ظل إحدى الأشجار، رأى تفاحة تسقط على الأرض وتأمل في هذا المشهد وسأل نفسه سؤاله الشهير: لماذا سقطت التفاحة للأسفل؟!.
فلعل هذا السؤال يعتبر بديهيا ولا يتوقع أن يسأل، إلا أنه كان البداية لاكتشاف قانون الجاذبية الأرضية، فلو كان بجانب نيوتن حينها أحد المستهزئين لنعته بالجنون وقتل فكرته في مهدها وحرم العالم من كل هذا العلم، لذلك أدركت الدول المتقدمة أهمية موضوع الإبداع وعملت على تشجيعه وتدريسه لأبنائها مما جعل مجتمعاتهم تنهض، فازدهرت لديهم ثقافة الإبداع.
وللأسف أن وباء الاستهزاء متفشيا في مجتمعاتنا ويعتبر من أهم معوقات النهضة، فكثير من الشباب الجاد تكون لديهم إبداعات وأفكار إيجابية يتوجهون بها لبناء أنفسهم ومجتمعاتهم، فيصدمون باستهزاء هؤلاء السلبيون فيحبطوا عزائمهم ويجروهم إلى معسكر السلبية والضياع، وأعتقد أن الكثيرين منا قد مروا بهذه التجربة حيث أن بداخل كل إنسان مبدع، والكثير من المبدعين يُقتل إبداعهم في بداية الطريق ولا يستمر منهم إلا القليل.
والغريب أن هؤلاء المستهزئون ينظرون للدول المتقدمة بعين الانبهار والتعجب لما وصلت إليه تلك الدول من علم وتقدم، ولا يعلمون أنهم هم أنفسهم سبب تخلف مجتماعتهم.
ولعظم هذا الموضوع وأهميته لم يتجاهله ديننا الإسلامي الحنيف الذي صنع الأمجاد وقاد الحضارات، فالقرآن الكريم لم يدع كبيرة ولا صغيرة في هذه الحياة إلا وبينها، فهو معجزة الله الخالدة، حيث يقول فيه الله عز وجل «ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون» (الزمر 27)، فقد تناول القرآن الكريم موضوع الاستهزاء من عدة محاور، نبين منها التالي:
أولاً: ( الاستهزاء والنجاح )
يبين القرآن الكريم أن الاستهزاء غالباً ما يلازم الصالحين من الناس والإيجابيين، فلو بحثنا عن أفضل النماذج البشرية وأنجحها فلن نجد أفضل من الأنبياء والرسل عليهم السلام، فهم يتلقون العلم من الخالق جل جلاله، ومع هذا لم يسلموا من سخرية المستهزئين، فقد قال الله عز وجل «وما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤون» (الحجر 11).
ثانياً: ( نبذ الاستهزاء وذم المستهزئين )
ويبين القرآن الكريم أن الاستهزاء أمر مشين لا يرضاه الله عز وجل حيث يقول الله تعالى « يا حسرة على العباد ما يأتيهم من رسول إلا كانوا به يستهزؤون» (يس 30)، كما يقول الله عز وجل « لقد استهزئ برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب » (الرعد 32)، كذلك يقول سبحانه وتعالى « يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونا خيراً منهم » (الحجرات 11).
ثالثاً: ( تأييد الصالحين وتثبيتهم )
ويجد أصحاب الأفكار الإيجابية البناءة في القرآن الكريم ما يثبتهم ويعينهم على تحقيق أهدافهم السامية حينما يستمعون لقول الله تعالى وهو يثبت رسوله الكريم عليه الصلاة وسلام في قوله « فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين (94) إنا كفيناك المستهزئين»(الحجر 94 , 95) ، وفي قوله تعالى « وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما » ( الفرقان 63).
والآن عزيزي القارئ وبعدما تعرفنا على أهمية هذا الموضوع ومدى خطورته فإنني أود أن أوجه رسالتين:
الرسالة الأولى لكل إنسان جاد طموح يعاني من هذه المشكلة، فأقول له لا تلتفت لمن يحاول إحباط عزيمتك , واستمر ما دمت على الحق واعلم أنه " لا يقذف بالحجارة إلا الشجرة المثمرة ".
الرسالة الثانية للمستهزئ، فأقول له: لا تكن سبب في تأخر مجتمعاتنا وعقبة في طريق المصلحين , فينطبق عليك قول الله تعالى « أن تقول نفس ياحسرتى على ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين » (الزمر 56)، بل كن ممن قال الله تعالى فيهم «الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولوا الألباب» (الزمر 18).