إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر ولابد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر حادثة الفرار المثير التي شهدتها تونس مساء أمس عندما أجبر شعبها الذي أراد الحياة فلم يستطع رئيسها أن يقاوم القدر فترك البلاد بحثا عن مكان بعيد عن ثورة الشارع، ولم يستطع الليل أن يصمد أمام شمس الحق ولا القيد سوى أن ينكسر، أكد أن ما قاله الشاعر التونسي أبوالقاسم الشابي لم يكن من أضغاث الشعراء الذين يتبعهم الغاوون بل الذين استثناهم القرآن الكريم في سورة الشعراء فتحقق ما لم يستطع حتى منجمو تونس المشهورين من التنبؤ له في تنجيماتهم التي أطلقوها منذ شهر فقط..
*
قد يكون خطاب الرئيس التونسي زين العابدين بن علي الذي كان خطبة وداع حقيقية هو أهم خطاب يلقيه زعيم عربي في التاريخ، لأنه كان مكتوبا بدم الشعب، وليس بحبر السلطة المتسلطة على الرقاب كما في كل خطابات التجبّر واستعراض المفردات أو التهدئة التي يلقيها القادة العرب، فكلمات الخطاب بدت جبانة إلى أقصى درجة، فكان الرجل يعترف بأخطائه ويعد بتصحيحها، وكان الخوف مختلطا بقليل من الأمل يوحي أن ساعات الرجل معدودات، حتى قيل إن خطاب زين العابدين بن علي أعاد لأول مرة الكثير من أبناء الشعب العربي بمحض إرادتهم متابعته، وليس كما كان يقال لنا بأن رسائل المتفرجين تهاطلت على التلفزيون لأجل إعادة الخطابات الرئاسية المسماة بالقيّمة.. خطاب رأى فيه الكثيرون انتصار شعب ورأى فيه البقية اعتراف حاكم، واتفق الجميع على أن شيئا ما سيتحقق في تونس وهو فعلا ما حصل بعد ساعات فقط.
* الناس تداولوا كلمة "غلطوني" التي تفوّه بها الرئيس التونسي ككلمة الموسم وكل المواسم، وسيتداولون الآن الهروب كفعل الموسم وكل المواسم، والكل فهم أن الرؤساء يعيشون في عالم آخر، فالرجل قال أنه كافح نصف قرن من الزمان وقضى ربع قرن منها في السلطة ومع ذلك "غلطوه" وقدموا له أرقاما وصورا ليست من الواقع فكانت النتيجة أن هرب من البلد الذي عاش لأجله ومنه حسب قوله، وعاد الحديث عن الحاشية التي تحيط بالزعماء تحجب عنهم الرؤية، فتجعلهم في كل واد يهيمون إلا الوادي الآسن الذي يغرق فيه الشعب وتجعلهم صما بكما عميا لا يفقهون عن واقع أوطانهم شيئا.. حادثة هروب الرئيس التونسي وتحليلها النفسي والاجتماعي قبل السياسي هو ليس شأن لا يعني سوى التونسيين، فحكاية تغليطه وهروبه أعادتنا إلى واقع كل الشعوب العربية وأعادتنا إلى حكاية "التغليط" والتي نسميها نحن في الجزائر تغطية الشمس بالغربال وما فعلته في الحاكم وفي المحكوم..
* لنفرض أن أي رئيس عربي "غلطوه" فعلا وهو في تيه دائم عن حقيقة الأشياء فهل الوزراء أيضا غلطوهم وهل الأميار وهل صحفيو القطاع العام وسائر مناضلي الأحزاب والجمعيات في "غلطهم" يعمهون، حتى تحس أن البلاد كلها "غلطوها" إلا محمد البوعزيزي الذي انتحر في سيدي بوزيد فقد كان وحده من لم "يغلّطه" أحد.
* عندنا في الجزائر حكاية "غلطوني" تكاد تسري في كل مكان، فالحكومة غلطوها بأرقام ارتفاع مستوى المعيشة والدخل الفردي وأرقام البطالة المجهرية فراحت ترفع الأسعار حتى صار العدس مثل اللؤلئ والمرجان، وعندما ثار الناس اعترفت بأنهم "غلطوها" فصار همها الآن دراسة واقع الشارع والأسر الجزائرية، والأميار "غلطوهم" فلم يصلحوا الطريق ولم يوفروا الغاز والماء للقرى حتى نزل أهلها للشارع فعادوا ليعترفوا بتقصيرهم، ووزارات وأرباب عمل عامون وخواص "غلطوهم" فأبقوا على أجور كانت سارية منذ القرن الماضي وعندما شلت الإضرابات قطاعاتهم ومؤسساتهم عادوا لأجل الاعتراف ورفع الأجور، وفي كل الحالات المسؤول أو المنتخب من طرف الشعب وهو في الأصل شعب "يغلطوه" والشعب يثور بالتخريب وحتى بالنهب ليعود المسؤول بحقنة تحقيق بعض المطالب في أكبر تغليط ومغالطة للشعب.. لكن أصبح الآن للتغليط حلقة ثانية وربما نهائية وهي الهروب؟